فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد اللّه يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد. فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل: أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال: بل رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصنع.
وروى محارب بن دثار عن ابن عمر «أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد».
وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس: هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال: ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن اللّه عز وجل يقول: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ...} الآية. قال: ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث، ثم قال: هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط.
وروى الأعمش عن عمارة قال: كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
وقال زيد بن أسلم والسّدي: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، وقال بعضهم: أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهرًا على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة: كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة}.
عن أبي عفيف الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء؟ قال: إنه كان كافيًا وضوئي للصلاة كلها مالم أُحدث ولكني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات» ففي ذلك رغبت يا ابن أخي.
وقال بعضهم: بل كان هذا أمرًا من اللّه عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتمًا وامتحانًا أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف.
وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت: لعبيد اللّه بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد اللّه لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر عمّن هو؟ قال: حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأُمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث، وكان عبد اللّه يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ.
وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكّة صلّى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر رضي الله عنه: إنك تفعل شيئًا لم تكن تفعله قال: «عمدًا فعلته يا عمر».
وقال بعضهم: هذا إعلام من اللّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال.
وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن اللّه عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة.
وروى عبد اللّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد اللّه بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ}». اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {إذا قمتم إلى الصّلاة} إذا عزمْتم على الصّلاة، لأنّ القيام يطلق في كلام العرب بمعنى الشروع في الفعل، قال الشاعر:
فقام يذود النّاس عنها بسيفه ** وقال ألا لا من سبيل إلى هند

وعلى العزم على الفعل، قال النابغة:
قاموا فقالوا حمانا غيرُ مقروب

أي عزموا رأيهم فقالوا.
والقيام هنا كذلك بقرينة تعديته بـ «إلى» لتضمينه معنى عمدتم إلى أن تصلّوا.
وروى مالك في «الموطّأ» عن زيد بن أسلم أنّه فسّر القيام بمعنى الهبوب من النوم، وهو مروي عن السديُّ.
فهذه وجوه الأقوال في تفسير معنى القيام في هذه الآية، وكلّها تَؤُول إلى أنّ إيجاب الطهارة لأجل أداء الصّلاة.
وأمّا ما يرجع إلى تأويل معنى الشرط الذي في قوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية فظاهر الآية الأمر بالوضوء عند كلّ صلاة لأنّ الأمر بغسل ما أمر بغسله شُرط بـ {إذا قمتم} فاقتضى طلبُ غسل هذه الأعضاء عند كلّ قيام إلى الصّلاة.
والأمر ظاهر في الوجوب.
وقد وقف عند هذا الظاهر قليل من السلف؛ فروي عن علي بن أبي طالب وعكرمة وجوبُ الوضوء لكلّ صلاة ونسبه الطبرسي إلى داوود الظاهري، ولم يذكر ذلك ابن حزم في «المحلّى» ولم أره لغير الطبرسي.
وقال بريدة بن أبي بردة: كان الوضوء واجبًا على المسلمين لكلّ صلاة ثُمّ نسخ ذلك عام الفتح بفعل النّبيء صلى الله عليه وسلم فصلّى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وصلّى في غزوة خيبر العصر والمغرب بوضوء واحد.
وقال بعضهم: هذا حكم خاصّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول عجيب إن أراد به صاحبه حمل الآية عليه، كيفَ وهي مصدّرة بقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا}.
والجمهور حملوا الآية على معنى «إذا قمتُم محدثين» ولعلّهم استندوا في ذلك إلى آية النّساء (43) المصدّرة بقوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله ولا جُنبًا} الآية.
وحملوا ما كان يفعله النّبيء صلى الله عليه وسلم من الوضوء لكلّ صلاة على أنّه كان فرضًا على النّبيء صلى الله عليه وسلم خاصًّا به غير داخل في هذه الآية، وأنّه نسخ وجوبه عليه يوم فتح مكّة؛ ومنهم من حمله على أنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم كان يلتزم ذلك وحملوا ما كان يفعله الخلفاء الراشدون وابن عمر من الوضوء لفضل إعادة الوضوء لِكلّ صلاة.
وهو الّذي لا ينبغي القول بغيره.
والّذين فسّروا القيام بمعنى القيام من النّوم أرادوا تمهيد طريق التأويل بأن يكون الأمر قد نيط بوجود موجب الوضوء.
وإنّي لأعجب من هذه الطرق في التأويل مع استغناء الآية عنها؛ لأنّ تأويلها فيها بيّن لأنّها افتتحت بشرط، هو القيام إلى الصّلاة، فعلمنا أنّ الوضوء شرط في الصّلاة على الجملة. اهـ.

.قال الفخر:

قال قوم: الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة، وليس ذلك تكليفًا مستقلًا بنفسه، واحتجوا بأن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا} جملة شرطية، الشرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط، فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة.
وقال آخرون: المقصود من الوضوء الطهارة، والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر، أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام: «بني الدين على النظافة» وقال: «أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة» ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سببًا لغفران الذنوب والله أعلم. اهـ.

.فصل: [تجديد الوضوء لكل صلاة]:

قال الفخر:
قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة، وقال أكثر الفقهاء: لا يجب.
احتج داود بهذه الآية من وجهين: لأول: أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك، فإن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} إما أن يكون المراد منه قيامًا واحدًا وصلاة واحدة، فيكون المراد منه الخصوص، أو يكون المراد منه العموم، والأول باطل لوجوه: الأول: أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية، وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة، وذلك خلاف الأصل، وثانيها: أنه يصح إدخال الاستثناء عليه، ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل، وذلك يوجب العموم، وثالثها: أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد، وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة، إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل، فتصير هذه الآية وحدها مجملة، وقد بينا أنه خلاف الأصل، فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة.
الوجه الثاني: أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ، وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود، والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقرونًا بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم، ومن وجوه التعظيم كونه آتيًا بالخدمة حال كونه في غاية النظافة، ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة، ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف المناسب، وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه، فيلزم وجوب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة.
ثم قال داود: ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون، أو يقال: إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه، قال: أما القراءة الشاذة فمردودة قطعًا، لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن، وهو أن يقال: إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل، وأيضًا فلأن معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى، ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها، فلو كان ذلك قرآنًا لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ، وأما التمسك بخبر الواحد فقال: هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر، وذلك لا يجوز.
قال الفقهاء: إن كلمة {إِذَا} لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت، ثم لو دخلت ثانيًا لم تطلق ثانيًا، وذلك يدل على أن كلمة {إِذَا} لا تفيد العموم، وأيضًا أن السيد إذ قال لعبده: إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة.
واعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم: فلعله يلتزم العموم، وأيضًا فله أن يقول: إنا قد دللنا على أن كلمة {إِذَا} في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير، وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم، فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير، وأما الفقهاء فإنهم استدلوا على صحة قولهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد.
قال عمر رضي الله عنه: فقلت له في ذلك فقال: عمدًا فعلت ذلك يا عمر.
أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن، وأيضًا فهذا الخبر يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مواظبًا على تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: {فاتبعوه} [سبأ: 20] بقي أن يقال: قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح، فنقول: لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه: الأول: هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب، والظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها، لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه، وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها.
والثاني: أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» الثالث: أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد.
والرابع: أن دلالة القرآن على قولنا لفظية، ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية، والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية، لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس، فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم.
والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال: لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء، لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ} [النساء: 43] أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء، وذلك يدل على كون كل واحد منهما سببًا لوجوب الطهارة عند وجود الماء، وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة، وذلك يدل على ما قلناه. اهـ.